فعندما تتقد نار هذا الحب الدنيوي في أعماق الإنسان فسوف تقوده إلى أنواع الحرص والولع بالنسبة إلى المواهب المادية والدنيوية من قبيل سائر أنواع العشق الّذي يغطي على فكر الإنسان وعقله ويسوقه يوماً بعد آخر إلى السقوط في لجّة التلوث بالخطايا والالتصاق بالعالم السفلي.
ولهذا السبب فإنّ القرآن الكريم ومن أجل قطع جذور الحرص والولع قد تحرّك في آياته الكريمة من موقع ذمّ حبّ الدنيا والافراط في التوغل في ملذاتها والتشبّث بزخارفها والّذي يمثل الجذور الأصلية للحرص والطمع في بُعدهما السلبي، ونقرأ في المفاهيم القرآنية تعبيرات مختلفة تحط من قدر الدنيا وقيمتها لكي يخفف ذلك من حب أهل الدنيا لها ويتحركوا بعيداً عن أجوائها ويتخلصوا بذلك من الحرص والطمع ولا يضحوا بالقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية على مذبحها.
وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي من تعبيراتها الدقيقة ما يضيء لنا
[ 92 ]
الطريق لدراسة هذه المبادئ والمواقف الأخلاقية المهمة :
1 ـ إنّ القرآن الكريم يرى أنّ الدنيا ما هي إلاّ لعب ولهو كما يلهو ويلعب الأطفال، وقد ورد وصف ذلك في آيات متعددة، ففي قوله تعالى : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا اِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ...)(1).
وفي آية اُخرى قوله تعالى (اِعْلَمُوا اَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلاَدِ...)(2).
وفي الحقيقة أنّ هذه الآيات الكريمة تشبّه أصحاب الدنيا بأنّهم كالأطفال الّذين يعيشون الغفلة والجهل عمّا يدور حولهم ولا همّ لهم إلاّ الاشتغال بالتوافه والسفاسف من الاُمور فلا يرون حتّى الخطر القريب المحدق بهم.
بعض المفسّرين قسّم حياة الإنسان إلى خمس مراحل (من الطفولة إلى أن يبلغ مرحلة الكهولة في سن الأربعين) وذكر أنّ لكلّ مرحلة ثمان سنوات وقال : إنّ السنوات الثمانية الاُولى من عمر الإنسان هي مرحلة اللعب، والسنوات الثمانية الثانية هي مرحلة اللهو، والسنوات الثمانية الثالثة حيث يعيش الإنسان في فترة الشباب فإنه يتجه إلى الزينة والالتذاذ بالجمال، والسنوات الثمانية الرابعة يقضي وقته وطاقاته في التفاخر، وأخيراً في السنوات الثمانية الخامسة يهتم بالتكاثر في الأموال والأولاد، وهنا يثبت شخصية الإنسان ويستمر على هذه الحالة إلى آخر عمره، وبالتالي فإنّ أصحاب الدنيا لا يبقى لهم مجال للتفكر في الحياة المعنوية والقيم الإنسانية السامية.
2 ـ ومن الآيات الاُخرى في هذا المجال نرى مفهوم «متاع الغرور» بالنسبة إلى الحياة الدنيا حيث يقول تعالى (... وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا اِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)(3).
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة الأنعام، الآية 32.
2. سورة الحديد، الآية 20.
3. سورة آل عمران، الآية 185.
[ 93 ]
ويقول في مكان آخر (... فَلاَ تَغُرَّنَكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ)(1).
وهذه التعبيرات تدلّ على أنّ زخارف الدنيا وبريقها الخادع يُعد أحد الموانع المهمة للتكامل المعنوي والصعود في درجات الكمال الإلهي للإنسان وما دام هذا المانع موجوداً فإنه لا يصل إلى شيء من هذه الكمالات المعنوية.
إنّ الحياة الدنيا مثلها كمثل السراب الّذي يجذب العطاشى نحوه في الصحراء المحرقة ولكنهم لا يحصلون على شيء منه أخيراً، وهكذا حال التعلقات المادية الدنيوية فإنّها تجذب أصحاب الدنيا نحوها طمعاً في إرواء ظمأهم وعطشهم إلاّ أنّهم لا يجدون ما يطلبونه في هذا المسير المنحرف بل يزدادون ظمأً وحُرقة، وكما أنّ السراب يبتعد عن الإنسان كلّما مشى نحوه وهكذا يظل يركض وراء السراب حتّى يهلك، فكذلك الدنيا تبتعد عن الإنسان كلّما اتّجه نحوها فتزيده عطشاً لها وارهاقاً حتّى يهلك.
ونرى هذه الحالة في الكثير من أصحاب الدنيا الّذين يركضون وراء متاع الدنيا وزخارفها سنوات مديدة من عمرهم وعندما يحصلوا على شيء منها فانهم يصرّحون بأنّهم لم يجدوا ضالّتهم إلاّ وهي (الهدوء النفسي والطمأنينة الروحية) بل يعيشون الجفاف الروحي أكثر ويجدون أنّ ملذات الحياة الدنيا تقترن دائماً مع الاشواك والمنغصات وبدلاً من أن تورثهم الهدوء والطمأنينة فإنّها تعمل على إذكاء حالة القلق والإضطراب في جوانحهم وأعماق وجودهم وبذلك لا يجدون مبتغاهم فيها.
3 ـ وهناك طائفة اُخرى من الآيات الكريمة الّتي تقرر لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ الانجذاب نحو زخارف الدنيا وزبارجها يؤدي إلى أن يعيش الإنسان الغفلة عن الآخرة، أي أن يكون الشغل الشاغل له وهمه الوحيد هو تحصيل هذه الزخارف الخادعة، فتقول الآية الشريفة: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَةِ هُمُ غَافِلُونَ)(2).
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة لقمان، الآية 33.
2. سورة الروم، الآية 7.
[ 94 ]
فهؤلاء يجهلون حتّى الحياة الدنيا أيضاً وبدلاً من أن يجعلونها مزرعة الآخرة وقنطرة للوصول إلى الحياة الخالدة ونيل المقامات المعنوية وميداناً لممارسة السلوكيات الّتي تصعد بهم في سُلّم الفضائل الأخلاقية ومدارج الإنسانية، يتخذون الدنيا بعنوان انها الهدف النهائي والمطلوب الحقيقي والمعبود الواقعي لهم، ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغفلة عن الحياة الاُخرى.
ويقول القرآن الكريم في آية اُخرى :
(اَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الاْخِرَةِ)(1) ثمّ تضيف الآية (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الاْخِرَةِ اِلاّ قَلِيلٌ)(2) أجل فإنّ الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الاُفق ومحدودية الفكر فانهم يرون الدنيا كبيرة وواسعة وخالدة وينسون الحياة الاُخرى الأبدية الّتي قرّرها الله تعالى لحياة الإنسان الكريمة والمليئة بالمواهب الإلهية والنعيم الخالد.
4 ـ ونقرأ في قسم آخر من الآيات الكريمة أنّ الدنيا هي (عرض) على وزن (غرض) بمعنى الموجود المتزلزل والّذي يعيش الاهتزاز والتغير والتبدل في جميع جوانبه وحالاته، ومن ذلك قوله تعالى (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)(3).
وتقول الآيات في مكان آخر مخاطبة لأصحاب النبي الأكرم (...يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ...)(4).
وفي آيات اُخرى نجد هذا التعبير أيضاً حيث يدلّ على أنّ جماعة من المسلمين أو غير المسلمين وبدافع من الحرص والطمع تركوا الاهتمام بالمواهب الإلهية الخالدة والحياة الاُخرى والقيم الإنسانية العالية واشتغلوا في جمع زخارف الدنيا الزائله واشباع الملذات الرخيصة في حركة الحياة الدنيا. أجل فان النعمة الحقيقية هي ما عند الله تعالى وما بقي فكلها (عرض) يقبل الزوال والاندثار.
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة التوبة، الآية 38.
2. سورة النساء، الآية 94.
3. سورة النساء، الآية 94.
4. سورة الأنفال، الآية 67.
[ 95 ]
وهذا التعبير هو في الحقيقة انذار لجميع طلاب الدنيا بأنّهم ينبغي عليهم الاهتمام بما لديهم من طاقات ورأس مال عظيم وبإمكانهم استخدامها في سبيل حياة كريمة وخالدة فلا يضيعونها في الاُمور الرخيصة والزائل.
5 ـ ونقرأ في قسم آخر من الآيات التعبير عن المواهب المادية بأنّها (زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1).
ووردت تعبيرات مشابهة لهذه الآية في آيات اُخرى أيضاً في قوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ اِلَيْهِمْ اَعْمَالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ)(2).
وفي مكان آخر يخاطب القرآن الكريم نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ويقول : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لاَِزْوَاجِكَ اِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ اُمَتِّعْكُنَّ وَاُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً)(3).
وهذه التعبيرات توضح بصورة جيدة أنّ هذا البريق لزخارف الحياة الدنيا ما هو إلاّ زينة للحياة المادية، وبديهي أنّ الإنسان لا يُعبّر عن الاُمور الحياتية والمصيرية بتعبير (زينة) أو (زينة الحياة الدنيا) أي الحياة السفلى والتافهة.
ومن الجدير بالذكر انه حتّى أنّ مفهوم (الزينة) نجده في آيات اُخرى مبنياً للمجهول حيث ورد تعبير (زُيّن) وهذا يدلّ على أنّ هذه الزينة غير حقيقية بل خيالية ووهمية.
مثلاً نقرأ في سورة البقرة الآية 212 قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...).
ونقرأ في سورة آل عمران الآية 14 قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ).
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة الكهف، الآية 28 و 46.
2. سورة هود، الآية 15.
3. سورة الأحزاب، الآية 28.
[ 96 ]
هذه التعبيرات وتعبيرات اُخرى مماثله تشير إلى أنّه حتّى مفهوم (الزينة) في مثل هذه الموارد ما هي إلاّ زينة وهمية وخيالية حيث يتوهم الناس من طلاب الدنيا انها زينة حقيقية وواقعية.
وهنا يتبادر سؤال مهم، وهو انه لماذا جعل الله تعالى مثل هذه الاُمور زينة في أنظار الناس ؟
ومن المعلوم أنّ الدنيا إنما جُعلت لتربية الإنسان واختباره وامتحانه لأن الإنسان إذا ترك مثل هذه الزينة الجميلة والخادعة والّتي تكون مقرونة بالحرام والإثم غالباً من أجل الله تعالى والسير في خط التقوى والإيمان فإنّ ذلك من شأنه أن يعمق في نفسه روح التقوى والقيم الأخلاقية ويصعد به في مدارج الكمال المعنوي وإلاّ فإنّ صرف النظر عن هذه الاُمور المخادعة بمجرّده لا يُعدّ افتخاراً ومكرمة للإنسان.
وبعبارة أدق فإنّ التمايلات والرغبات الباطنية والأهواء النفسا
ولهذا السبب فإنّ القرآن الكريم ومن أجل قطع جذور الحرص والولع قد تحرّك في آياته الكريمة من موقع ذمّ حبّ الدنيا والافراط في التوغل في ملذاتها والتشبّث بزخارفها والّذي يمثل الجذور الأصلية للحرص والطمع في بُعدهما السلبي، ونقرأ في المفاهيم القرآنية تعبيرات مختلفة تحط من قدر الدنيا وقيمتها لكي يخفف ذلك من حب أهل الدنيا لها ويتحركوا بعيداً عن أجوائها ويتخلصوا بذلك من الحرص والطمع ولا يضحوا بالقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية على مذبحها.
وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي من تعبيراتها الدقيقة ما يضيء لنا
[ 92 ]
الطريق لدراسة هذه المبادئ والمواقف الأخلاقية المهمة :
1 ـ إنّ القرآن الكريم يرى أنّ الدنيا ما هي إلاّ لعب ولهو كما يلهو ويلعب الأطفال، وقد ورد وصف ذلك في آيات متعددة، ففي قوله تعالى : (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا اِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ...)(1).
وفي آية اُخرى قوله تعالى (اِعْلَمُوا اَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلاَدِ...)(2).
وفي الحقيقة أنّ هذه الآيات الكريمة تشبّه أصحاب الدنيا بأنّهم كالأطفال الّذين يعيشون الغفلة والجهل عمّا يدور حولهم ولا همّ لهم إلاّ الاشتغال بالتوافه والسفاسف من الاُمور فلا يرون حتّى الخطر القريب المحدق بهم.
بعض المفسّرين قسّم حياة الإنسان إلى خمس مراحل (من الطفولة إلى أن يبلغ مرحلة الكهولة في سن الأربعين) وذكر أنّ لكلّ مرحلة ثمان سنوات وقال : إنّ السنوات الثمانية الاُولى من عمر الإنسان هي مرحلة اللعب، والسنوات الثمانية الثانية هي مرحلة اللهو، والسنوات الثمانية الثالثة حيث يعيش الإنسان في فترة الشباب فإنه يتجه إلى الزينة والالتذاذ بالجمال، والسنوات الثمانية الرابعة يقضي وقته وطاقاته في التفاخر، وأخيراً في السنوات الثمانية الخامسة يهتم بالتكاثر في الأموال والأولاد، وهنا يثبت شخصية الإنسان ويستمر على هذه الحالة إلى آخر عمره، وبالتالي فإنّ أصحاب الدنيا لا يبقى لهم مجال للتفكر في الحياة المعنوية والقيم الإنسانية السامية.
2 ـ ومن الآيات الاُخرى في هذا المجال نرى مفهوم «متاع الغرور» بالنسبة إلى الحياة الدنيا حيث يقول تعالى (... وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا اِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)(3).
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة الأنعام، الآية 32.
2. سورة الحديد، الآية 20.
3. سورة آل عمران، الآية 185.
[ 93 ]
ويقول في مكان آخر (... فَلاَ تَغُرَّنَكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ)(1).
وهذه التعبيرات تدلّ على أنّ زخارف الدنيا وبريقها الخادع يُعد أحد الموانع المهمة للتكامل المعنوي والصعود في درجات الكمال الإلهي للإنسان وما دام هذا المانع موجوداً فإنه لا يصل إلى شيء من هذه الكمالات المعنوية.
إنّ الحياة الدنيا مثلها كمثل السراب الّذي يجذب العطاشى نحوه في الصحراء المحرقة ولكنهم لا يحصلون على شيء منه أخيراً، وهكذا حال التعلقات المادية الدنيوية فإنّها تجذب أصحاب الدنيا نحوها طمعاً في إرواء ظمأهم وعطشهم إلاّ أنّهم لا يجدون ما يطلبونه في هذا المسير المنحرف بل يزدادون ظمأً وحُرقة، وكما أنّ السراب يبتعد عن الإنسان كلّما مشى نحوه وهكذا يظل يركض وراء السراب حتّى يهلك، فكذلك الدنيا تبتعد عن الإنسان كلّما اتّجه نحوها فتزيده عطشاً لها وارهاقاً حتّى يهلك.
ونرى هذه الحالة في الكثير من أصحاب الدنيا الّذين يركضون وراء متاع الدنيا وزخارفها سنوات مديدة من عمرهم وعندما يحصلوا على شيء منها فانهم يصرّحون بأنّهم لم يجدوا ضالّتهم إلاّ وهي (الهدوء النفسي والطمأنينة الروحية) بل يعيشون الجفاف الروحي أكثر ويجدون أنّ ملذات الحياة الدنيا تقترن دائماً مع الاشواك والمنغصات وبدلاً من أن تورثهم الهدوء والطمأنينة فإنّها تعمل على إذكاء حالة القلق والإضطراب في جوانحهم وأعماق وجودهم وبذلك لا يجدون مبتغاهم فيها.
3 ـ وهناك طائفة اُخرى من الآيات الكريمة الّتي تقرر لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ الانجذاب نحو زخارف الدنيا وزبارجها يؤدي إلى أن يعيش الإنسان الغفلة عن الآخرة، أي أن يكون الشغل الشاغل له وهمه الوحيد هو تحصيل هذه الزخارف الخادعة، فتقول الآية الشريفة: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاْخِرَةِ هُمُ غَافِلُونَ)(2).
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة لقمان، الآية 33.
2. سورة الروم، الآية 7.
[ 94 ]
فهؤلاء يجهلون حتّى الحياة الدنيا أيضاً وبدلاً من أن يجعلونها مزرعة الآخرة وقنطرة للوصول إلى الحياة الخالدة ونيل المقامات المعنوية وميداناً لممارسة السلوكيات الّتي تصعد بهم في سُلّم الفضائل الأخلاقية ومدارج الإنسانية، يتخذون الدنيا بعنوان انها الهدف النهائي والمطلوب الحقيقي والمعبود الواقعي لهم، ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغفلة عن الحياة الاُخرى.
ويقول القرآن الكريم في آية اُخرى :
(اَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الاْخِرَةِ)(1) ثمّ تضيف الآية (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الاْخِرَةِ اِلاّ قَلِيلٌ)(2) أجل فإنّ الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الاُفق ومحدودية الفكر فانهم يرون الدنيا كبيرة وواسعة وخالدة وينسون الحياة الاُخرى الأبدية الّتي قرّرها الله تعالى لحياة الإنسان الكريمة والمليئة بالمواهب الإلهية والنعيم الخالد.
4 ـ ونقرأ في قسم آخر من الآيات الكريمة أنّ الدنيا هي (عرض) على وزن (غرض) بمعنى الموجود المتزلزل والّذي يعيش الاهتزاز والتغير والتبدل في جميع جوانبه وحالاته، ومن ذلك قوله تعالى (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)(3).
وتقول الآيات في مكان آخر مخاطبة لأصحاب النبي الأكرم (...يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الاْخِرَةَ...)(4).
وفي آيات اُخرى نجد هذا التعبير أيضاً حيث يدلّ على أنّ جماعة من المسلمين أو غير المسلمين وبدافع من الحرص والطمع تركوا الاهتمام بالمواهب الإلهية الخالدة والحياة الاُخرى والقيم الإنسانية العالية واشتغلوا في جمع زخارف الدنيا الزائله واشباع الملذات الرخيصة في حركة الحياة الدنيا. أجل فان النعمة الحقيقية هي ما عند الله تعالى وما بقي فكلها (عرض) يقبل الزوال والاندثار.
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة التوبة، الآية 38.
2. سورة النساء، الآية 94.
3. سورة النساء، الآية 94.
4. سورة الأنفال، الآية 67.
[ 95 ]
وهذا التعبير هو في الحقيقة انذار لجميع طلاب الدنيا بأنّهم ينبغي عليهم الاهتمام بما لديهم من طاقات ورأس مال عظيم وبإمكانهم استخدامها في سبيل حياة كريمة وخالدة فلا يضيعونها في الاُمور الرخيصة والزائل.
5 ـ ونقرأ في قسم آخر من الآيات التعبير عن المواهب المادية بأنّها (زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1).
ووردت تعبيرات مشابهة لهذه الآية في آيات اُخرى أيضاً في قوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ اِلَيْهِمْ اَعْمَالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ)(2).
وفي مكان آخر يخاطب القرآن الكريم نساء النبي (صلى الله عليه وآله) ويقول : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لاَِزْوَاجِكَ اِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ اُمَتِّعْكُنَّ وَاُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً)(3).
وهذه التعبيرات توضح بصورة جيدة أنّ هذا البريق لزخارف الحياة الدنيا ما هو إلاّ زينة للحياة المادية، وبديهي أنّ الإنسان لا يُعبّر عن الاُمور الحياتية والمصيرية بتعبير (زينة) أو (زينة الحياة الدنيا) أي الحياة السفلى والتافهة.
ومن الجدير بالذكر انه حتّى أنّ مفهوم (الزينة) نجده في آيات اُخرى مبنياً للمجهول حيث ورد تعبير (زُيّن) وهذا يدلّ على أنّ هذه الزينة غير حقيقية بل خيالية ووهمية.
مثلاً نقرأ في سورة البقرة الآية 212 قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...).
ونقرأ في سورة آل عمران الآية 14 قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ).
--------------------------------------------------------------------------------
1. سورة الكهف، الآية 28 و 46.
2. سورة هود، الآية 15.
3. سورة الأحزاب، الآية 28.
[ 96 ]
هذه التعبيرات وتعبيرات اُخرى مماثله تشير إلى أنّه حتّى مفهوم (الزينة) في مثل هذه الموارد ما هي إلاّ زينة وهمية وخيالية حيث يتوهم الناس من طلاب الدنيا انها زينة حقيقية وواقعية.
وهنا يتبادر سؤال مهم، وهو انه لماذا جعل الله تعالى مثل هذه الاُمور زينة في أنظار الناس ؟
ومن المعلوم أنّ الدنيا إنما جُعلت لتربية الإنسان واختباره وامتحانه لأن الإنسان إذا ترك مثل هذه الزينة الجميلة والخادعة والّتي تكون مقرونة بالحرام والإثم غالباً من أجل الله تعالى والسير في خط التقوى والإيمان فإنّ ذلك من شأنه أن يعمق في نفسه روح التقوى والقيم الأخلاقية ويصعد به في مدارج الكمال المعنوي وإلاّ فإنّ صرف النظر عن هذه الاُمور المخادعة بمجرّده لا يُعدّ افتخاراً ومكرمة للإنسان.
وبعبارة أدق فإنّ التمايلات والرغبات الباطنية والأهواء النفسا